الكاتب/ يسري مصطفي |
يسري مصطفى
نشرت مجلة فورين أفير الأمريكية (Foreign Affairs) فى عدد مارس/ابريل 2015 مقالا بعنوان “تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ليس جماعة إرهابية”، ويرى الكاتب أن سياسات مكافحة الإرهاب التقليدية لن تجدى نفعاً مع هذا التنظيم، ويميز بين داعش وتنظيم القاعدة، فداعش ليس امتدادا للقاعدة وليس أحد أشكال تطوره، بل يصفه بأنه يمثل مرحلة مابعد القاعدة. فعلى الرغم من أن تنظيم داعش، على خلاف القاعدة، يستخدم الإرهاب كتكتيك، إلا أنه ليس منظمة إرهابية على الإطلاق. فالشبكات الإرهابية، مثل تنظيم القاعدة، تضم عشرات أو مئات من الأعضاء وتستهدف المدنيين بأعمال إرهابية متفرقة، أما داعش فهو تنظيم له جيش يضم نحو 30 ألف مقاتل، ويمارس وجوده داخل حدود ويدخل فى مواجهات عسكرية مباشرة على هذه الحدود، ويحافظ على قدرات عسكرية واسعة النطاق، ويسيطر على خطوط اتصال، ويقدم ذاته على أنه يمتلك مؤسسات، وأنه يمتلك موارد كذلك. وفى الحقيقة أن الكاتب لم يبرئ داعش من الإرهاب، ولكن الجديد أنه أضفى على هذا التنظيم الغامض صفات تميزه عن التنظيمات الجهادية التقليدية. وهذا الاختلاف هو ما ينبغى التوقف عنده، بل يمكن الذهاب بالفكرة إلى ما هو أبعد من ذلك، وطرح سؤال افتراضى وهو: هل نحن أمام نمط جديد من الدولة؟
لقد سمعنا فى السابق عن الدولة الفاشلة والدولة المارقة، وهذان المصطلحان يصفان حالة الدولة التقليدية حال فشلها أو حال قيامها بتهديد أطراف أخرى. أما داعش فهو ربما نمط مختلف من الدولة هو أحد الثمار المرة للعولمة المتوحشة، ودعنا نصفها الآن بأنه دولة متحركة (Mobile State)، بمعنى أننا بصدد “دولة” تصنع حدودا متحركة، دولة بلا مواطنين بل أشخاص من جنسيات متعددة تقطعت بهم السبل اقتصاديا وثقافيا.. ينخرط هؤلاء فى هذا الكيان ليس من أجل بناء مجتمع، بل فقط بدافع الانخراط، طوعا أو قسرا، فى كيان وظيفى يتسم بدرجة المرونة ومن تقسيم الأدوار بين مهام قتالية وإجرامية ولوجيستية وإعلامية وجنسية وغيرها، ولهذا الكيان تشكيلات إدارية وقضائية خفيفة الكثافة، وفوق هذا وذاك يتصل التنظيم بشبكات دولية تعمل فى مجالات التهريب والإتجار بالبشر والمافيات العاملة فى تجارة السلاح والآثار والنفط وغيرها. وبصلاته هذه فهو ليس معزولا عن منظومة كونية تعمل فى الظلام سواء فى مجال السياسة أو الاقتصاد. وإذا كان الحال كذلك، فليس من الصعب أن نفترض أن هذا التنظيم على علاقة بشركات ودول من خلال أجهزة استخباراتية وأمنية.
وهذه الدولة المتنقلة هى دولة مهام، بمعنى أنها دولة بلا تاريخ وربما بلا مستقبل، بل دولة عمليات وتتواجد حسب الطلب، وهذه الخفة قد تجعلها دولة قابلة للفك والتركيب والظهور والاختفاء، فهى تلبى احتياجات قوى ومصالح داخل النظام االعالمى الذى يشهد تحولات درامية. إن النظام العالمى الذى برز على السطح بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، تحدى الدولة الاستبدادية بخلق “أسطورة” المجتمع المدنى، وقد تم تقديم فكرة حقوق الإنسان باعتبارها ركيز أساسية فى العلاقات الدولية، ولكن سرعان ما حلت الثقافة محل حقوق الإنسان فى إطار صراع الحضارات، لتصبح الصوت الأكثر جاذبية فى النظر إلى العلاقات الدولية وخاصة مع منطقة الشرق الأوسط الأكثر التهابا، وتزامن “الحوار الحضارى” مع إعلان الحرب ضد الإرهاب، فكان صوت الحرب أعلى من صوت الحوار،، ثم دخلنا المرحلة الراهنة والتى أصبح فيها “تكتيكات الإرهاب” هى الباب الخلفى للعلاقات الدولية. وهنا تحديدا يبرز دور ووظيفة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فهو أشبه بمشرحة النظام التى تختفى فى مكان ما داخل المبنى، ولكنها جزء من المبنى.
إن الحديث عن إرهاب الدولة مقابل إرهاب الجماعات ليس أمرا جديدا، فثمة أدبيات كثيرة حدثتنا عن هذا الموضوع، لكن ما نحن بصدده الآن هو مرحلة أكثر تعقيدا، حيث تحول “الإرهاب” إلى منظومة ربما تتجاوز الدولة، لأنها تقع ضمن شبكات تمتد خيوطها فى ظلمة السياسة والاقتصاد، ولا عجب فنحن فى عصر الشبكات والكيانات الثعبانية، إننا بسساطة فى مرحلة تتحقق فيها نبؤة “العولمة المتوحشة”.
Blogger Comment
Facebook Comment