طلعت رضوان
يرى بعض الباحثين المصريين أنه لا توجد أية فروق بين يمين ويسار إسرائيلى، ولا بين حاخامات متعصبين وضد الشعب الفلسطينى ومع التوسع ورفض إقامة الدولة الفلسطينية، وبين العلمانيين الذين هم النقيض تمامًا للأصوليين اليهود ، لأنّ هؤلاء العلمانيين ضد المؤسسة العسكرية الإسرائيلية التى تستهدف المزيد من التوسع ، ويتوازى هذا الموقف المُعارض لسياسة إسرائيل الرسمية مع موقفهم المؤيد لإقامة الدولة الفلسطينية. ووصل الشطط ببعض الباحثين المصريين لدرجة اعتبار تيار العلمانيين الإسرائيليين واليسار الإسرائيلى مجرد خرافة.
وأعتقفد أنّ هؤلاء الباحثين مرضى بوهم أشبه بوهم اليمامة التى كانت تـُريد (العدل الطوباوى الغير قابل للتحقق) أى أنها كانت تطلب المستحيل لأنها كانت تـُريد عودة الميت للحياة فالعدل من وجهة نظرها (كليب حيًا.. لا مزيد) كرّرتْ اليمامة ما سبق أنْ أوصى به أبوها لعمها حين طلب منه أنْ لا يُصالح إلى أنْ يعود كليب حيًا. وتلك اليوتوبيا المريضة كانت الفخ الذى وقع فيه الشاعر الكبير أمل دنقل فى قصيدته الشهيرة (فى أقوال البسوس الجديدة) من ديدوان (البكاء بين يدىْ زرقاء اليمامة) ويتغنى الناصريون والعروبيون بالمقطع الذى قال فيه ((لا تـُصالح/ ولو منحوك الذهب/ أترى حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتيْن مكانهما / هل ترى؟ هى أشياء لا تـُشترى)) والمعنى النقيض لشعار (لا تصالح) أنه لابد من الحرب وهو ما نصّ عليه أمل دنقل ((إنها الحرب/ قد تـُثقل القلب)) ولأنه كان واعيًا بمخاطر شعارات العروبة الزائفة كتب فى البيت التالى مباشرة ((لكن خلفك عار العرب)) فهو هنا دلّ على الوعى العميق بمأساة الشعب الفلسطينى ، عندما نصّ على أنّ (العرب عار) وفى نفس الوقت مسئولون عن تحرير فلسطين ثم يأتى الشعب الفلسطينى فى المرتبة الثانية ، كما روّج الإعلام العروبى/ الناصرى ، ولكن حماسته العروبية/ الناصرية طمستْ أمانته فوقع فى التناقض عندما أضاف ((لا تـُصالح/ ولا تتوخ الهرب/ لا تـُصالح على الدم.. حتى بدم/ لا تـُصالح ولو قيل رأس برأس/ أكل الرؤوس سواء؟.. إلى أنْ يقول فى المقطع الرابع ((لا تـُصالح/ ولو توّجوك بتاج الإمارة/ وكيف تصير المليك/ على أوجه البهجة المستعارة/ كيف تنظر فى يد من صافحوك/ فلا تـُبصر الدم/ فى كل كف/ إنْ سهمًا أتانى من الخلف/ سوف يجيئك من ألف خلف/ إنّ عرشك سيف/ وسيفك زيف)) هنا يعترف الشاعر بوجود الخونة من العرب ((إنْ سهمًا أتاتى من الخلف/ سوف يجيئك من ألف خلف)).
وفى نص تاريخى عن أقوال اليمامة ((فلما جاءتْ الوفود ساعية إلى الصلح قال لهم الأمير سالم : أصالح إذا صالحتْ اليمامة ، فقصدتْ إلى اليمامة أمها الجليلة ومن معها من نساء سادات القبيلة. فدخلنَ إليها وقـبّـلتْ الجليلة بنتها وقالت : أما يكفى ؟ فقد هلكتْ رجالنا وساءتْ أحوالنا وماتتْ فرساننا وأبطالنا. فأجابتها اليمامة : أنا لا أصالح ولو لم يبق أحد يقدر أنْ يُكافح)) وقالت أيضًا ((أنا لا أصالح حتى يقوم والدى ونراه راكبًا لقاكم)) (هكذا وردتْ الكلمة الأخيرة فى النص) أليس هذا النص فيه الدليل الأكيد على خرافة طلب المستحيل (عودة الميت للحياة) وإذا كان العرب (عار) على الشعب الفلسطينى كما كتب الشاعر، ألا يعنى أنهم مثل القتيل كليب؟ وهكذا يتضح أنه بينما الخرافة الحقيقية هى طلب عودة الميت للحياة ، يرى العروبيون/ الناصريون أنّ التيار العلمانى فى إسرائيل خرافة. رغم أنّ هذا التيار مناصر للشعب الفسطينى.
صحيح أنّ اليسار والعلمانيين الإسرائيليين مع الدولة الإسرائيلية ، وضد مزاعم القضاء عليها ، وصحيح أنّ إسرائيل اغتصبتْ الوطن الفلسطينى ، وصحيح أنّ العقل الحر مع عودة الحق لأصحابه ، ولكن الصحيح أيضًا أنّ إسرائيل أصبحتْ دولة بحكم الواقع الذى مرّ عليه 67 عامًا منذ قرار التقسيم عام47، فهل لدى (العرب) بعد هذا التاريخ القدرة والإرادة ل (طرد) إسرائيل ؟ وعدوة اليهود إلى بلادهم كما يُردّد الناصريون/ العروبيون ناهيك عن الإسلاميين ؟ وإذا كانت كل مُـعطيات الواقع (العربى) تؤكد على أنه لا وجود للقوة (العربية) ولا للإرادة (العربية) فلا يكون أمام العقل الحر إلاّ الدفاع عن الدولة العلمانية التى تضم الإسرائيليين والفلسطينيين على قاعدة (المواطنة) وليس على قاعدة (الدين) أو (وهو البديل الأكثر رواجًا) إقامة دولتيْن : فلسطينية لها كل مقومات الدولة المستقلة بجانب دولة إسرائيل . وفى هذا الشأن كتب الأديب الإسرائيلى عاموس عوز ((هذه الأرض وطن لشعبيْن : من الواضح أنه ليس لديهما وطن آخر ولا خيار آخر)) وفى حديث مع الناقد الأمريكى ديفيد سبارتر قال عاموس ((على السطح فى إسرائيل هناك ثقة فى النفس هائلة. رصيد ضخم من اللامبالاة ومن إجابات سخيفة تدور فى أى ذهن وتتمثل فى : لا تنزعج نحن نستطيع أنْ نحل كل شىء ونتغلب على كل صعوبة. ولكن هذه الثقة تطفح على السطح فقط ، بينما فى العمق وفى ذات طيات الضمير والعقلية الإسرائيلية ، هناك شعور قديم بالفزع اليهودى التقليدى ، فزع بالشعور بالذنب تجاه العرب ، ويؤدى فى حالة بطلة الرواية (كان يتكلم عن روايته حِنه وميخائيل) إلى نزوات انتقامية)) وفى حديث آخر سأله أحد النقاد : هل لازلتَ تؤمن بدولة علمانية ديمقراطية تستطيع البقاء فى إسرائيل ؟ فقال ((التطرف الدينى والتعصب حققا ارتفاعًا هائلا ، ليس فقط فى القدس ولكن فى أماكن كثيرة أخرى من العالم تحت سيطرة الإسلام والمسيحية واليهودية. ويؤدى ذلك إلى سيطرة الأصوليين (اليهود) على القدس . إننى لن أعتبر موجة التطرف الدينى فى إسرائيل ظاهرة عابرة. إنها ثابتة وقائمة)) وعاموس مؤلف الرواية التى انتقد فيها التطرف الدينى اليهودى وانتقد المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، شارك فى (حركة السلام الآن) وأحد المناصرين لإقامة الدولة الإسرائيلية. وخلال الإعتداء على لبنان عام 82 قاد مظاهرة ضد مناحم بيجين مذكرًا إياه أنّ ((هتلر قد مات)) ونشر قصة قصيرة فى مجلة اليوم السابع الفلسطينية تدور حول أم تشعر أنّ إحتلال القدس عام 67 لا يُساوى إصبعًا واحدًا من أصابع ابنها الذى فقدته فى تلك الحرب (من مقدمة وتعليقات مترجم الرواية- رفعت فوده- الدار العربية النشر- عام94).
وبينما الثقافة المصرية السائدة مع خرافة لا تـُصالح (بدون قوة وبدون إرادة) وأنّ العلمانيين واليسار الإسرائيلى (خرافة) فإنّ أصحاب العقول الحرة من المصريين رفضوا المشى وراء العروبيين/ الناصريين وابتعدوا عن طابور القطيع وحلــّـقوا فى فضاء الإنسانية ليُغرّدوا بأصواتهم الخاصة ، من بينهم د. محمد عبود فى كتابه (التمرد على الصهيونية فى الأدب الإسرائيلى المعاصر) الصادر عن هيئة الكتاب المصرية- عام 2013. وكتب عن الأديب عاموس عوز أنه ساهم فى تحرير عقول الجيل الجديد ((وكان يرفض توظيف الأدب لخدمة أغراض أيديولوجية. ويرى أنّ كل ما ينطق به الشاعر أو الأديب هو انعكاس لذاته فقط وليس لشىء آخر)) (ص27) وأشار إلى الكاتب (شلومو جروس) الذى طالب بإقامة دولة فلسطينية مستقلة للشعب العربى الفلسطينى وفق تعبيره وبنص كلماته. كما نشر الأديب (عاموس أيالون) سلسلة مقالات بعنوان (الإسرائيليون كمحتلين) فى نوفمبر67ردًا على حركة أرض إسرائيل الكاملة. والمجلات الثقافية الإسرائيلية ذات الميول اليسارية تـُشجع أى كتابة ضد المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ((فنشر الملحق الثقافى لإحدى المجلات مقالا حادًا وعنيفـًا للأديب (يتسحاق أورباز) عن ثمن إحتلال أراضى الآخرين . وهاجم فكرة تأسيس إسرائيل الكاملة)) كما خصّص الملحق الثقافى ذاته عددًا فى 29سبتمبر67 لردود أفعال الأدباء على إحتلال المناطق الفلسطينية ردًا على بعض الشعراء الذين كانوا يُمجدون إحتلال القدس عقب هزيمة67. ومن أشهر كــُـتاب الملحق الثقافى اليسارى (جدعون ليفى) الذى كتب كثيرًا عن معاناة الفلسطينيين الخاضعين للإحتلال الإسرائيلى . ونفس الشىء فعلته الكاتبة (عميرا هاس) التى لم تكتف بالكتابة عن معانة الفلسطينيين وإنما انتقلتْ للإقامة فى غزة ورام الله لتنقل وجهات نظر الفلسطينيين . وكذلك الكاتب (بينى تسيفر) الذى كتب عدة مقالات امتدح فيها الثقافة المصرية ، مما أثار عليه غضب اليمين الإسرائيلى . كما أتاح المُلحق الثقافى المجال أمام النقاد وأصحاب التوجهات الحداثية فى الأدب والنقد . وخاض هؤلاء معارك كثيرة بسبب النقد العنيف الموجه للصهونية على صفحات الملحق (من ص 43- 48).
وتحت عنوان (نقد طبيعة الدولة الصهيونية) عرض المؤلف بعض القصص التى تعرّضتْ لهذا الموضوع مثل قصة (القطار) للأديب (عميكام نحمانى) الذى عالج حالة الاغتراب الثقافى والرفض لمشروع الدولة الإسرائيلية من خلال شخصية أستاذ جامعى يمقتْ الثقافة الإسرائيلية ويرفض الاندماج (الثقافى) فيعيش فى إسرائيل بجسده فقط ، بينما تحل روحه فى إيطاليا (موطنه الأصلى) لأنها أكثر تحضرًا ورقيًا. وفى قصة (الوجبة الأخيرة) للأديب (جيورا بيلو) يود العودة إلى بولندا ليرى حبيبته التى رفضتْ الهجرة معه إلى فلسطين ((مُـشككة فى الدعاية الصهيونية حول أرض اللبن والعسل)) وتحاكى قصة (الأوديسة) للأديب (بار حيون) ملحمة الأوديسة اليونانية. وترمى القصة إلى أنّ الدولة الصهيونية ستصير مثل طريق (أوديسيوس) فى ملحمة الأوديسه مفروشة بالأهوال والوحوش المفترسة)) وكان تعقيب المؤلف ((جاء نقد وتمرد هذه الموجة من الأدباء الفائزين بجائزة ها آرتس مشبعًا بروح مغايرة عن تلك الروح التى تلبّستْ الأجيال السابقة.. واتسم نقد جيل الألفية الثالثة بالحدة فى التعبير، والشدة فى تقييم التجربة الإسرائيلية ، ورفع لواء الاحتجاج على تجاوز الشعارات الصهيونية)) (85، 96).
وصل جرأة البعض لدرجة أنْ أرسلت الكاتبة (نوعا يدلين) قصة بعنوان (أسئلة صعبة لله) تحكى فيها أنّ (الله) قرّر المشاركة فى مسابقة ها آرتس للقصة القصيرة. ورغم فكرة القصة الجريئة فإنها لم توفق فى الحصول على الجائزة والسبب أنها تدخل ((ضمن فن المحاكاة الساخرة أكثر من فن القصة)) ثم نشرتْ الكاتبة كتابًا بالعنوان نفسه (أسئلة صعبة لله) فصار من أكثر الكتب مبيعًا فى إسرائيل عام 2005 (52).
وفى فصل بعنوان (التمرد على سلطة النص والمؤسسة الدينية) كتب المؤلف ((يُشكل التمرد على الدين ملمحًا مهمًا من ملامح الاتجاهات الفكرية فى القصص القصيرة الفائزة بجائزة ها آرتس ، ويتردد صدى هذا التمرد والرفض على سيطرة المؤسسة الدينية لتأويل النص وسحب هذه التأويلات على الحياة المعيشية فى إسرائيل)) ففى قصة (إسماعيل) للأديب يوناتان يوفال الذى فاز بالجائزة عام 2000 تناول حكاية إسماعيل التوراتية واتخذ من هذه الشخصية محورًا لقصته. وإذا كان إسماعيل فى التوراة إنسانـًا وحشيًا وعدوانيًا من سكان الصحراء ، فإنّ إسماعيل فى المُـتخيّل السردى ، تمرّد على الظلم الذى وقع عليه ، نتيجة تفضيل أبيه لأخيه إسحاق وكراهية زوجة أبيه ساره له ولأمه ونفيهما إلى الصحراء . وتبدأ القصة بعودة إسماعيل للمشاركة فى تشييع جنازة أبيه. وركــّـز الراوى على الحالة النفسية لإسماعيل وإيمانه بعدالة قضيته. ورغبته فى الانتقام وموقفه السلبى من زوجة أبيه (ساره) وموقفه من أخيه إسحاق الذى يتراوح بين العداوة وليدة الصراع والاشفاق عليه بوصفه أخيه الأصغر ومحنته مع أبيه الذى كاد أنْ يذبحه لولا (معجزة كبش الفداء) وتلك القصة كانت صادمة للرأى العام الإسرائيلى (خاصة بين المتدينين) المولعين بشخصيتىْ ساره وإسحاق والنفور من إسماعيل وهاجر خاصة أنّ إسماعيل يوصف على أنه (جد العرب) الأعداء المُعاصرين للمشروع الإسرائيلى. وفى قصة (أوراق الخس) للأديبة (حِنا تويج) زوجة رومانسية حالمة وزوج متطرف دينيًا ، وتنتهى القصة بتمرد الزوجة على زوجها ، فى اسقاط على جبروت المؤسسة الدينية والقمع باسم الدين، خاصة أنه كان يُضاجعها بشكل لا إنسانى (63، 64، 274).
ومن نماذج التمرد على السلطة العسكرية قصة (أنا من اليهود) للأديب (ألموج بيهار) تتناول قصة شاب عراقى يتجول فى شوارع القدس ، وفجأة ينطق لسانه بلغة جدوده فى بغداد ، فينقض عليه رجال الشرطة ويشتبهون فى كونه (عربيًا إرهابيًا) بينما يصرخ هو فى القسم ((أنا من اليهود)) ووفقــًا لقراءة المؤلف للقصة كتب ((تتدافع الأحداث المُـشبعة بالواقعية السحرية ، فكما تمرّد جهاز النطق ، تتمرّد شوارع القدس ، وتعود لهيئتها العربية مُـنتصرة على ملامح التهود التى حولتها إلى (أورشليم) ثم تتطور الأحداث فيشعر البطل بالاغتراب ، فهو ليس يهوديًا وفق المقاييس الاشكنازية المقبولة فى إسرائيل ولا بقى عربيًا. وتتطور الأحداث أكثر عندما يُصاب المجتمع الإسرائيلى كله بعدوى تغيير النطق ، فتعود كل مجموعة ذات خصوصية ثقافية إلى نطقها القديم : التركى والإسبانى والألمانى الخ . تسعى السلطات لمحاربة (هذا التفكك) و(التمرد) الذى يقضى على عشرات السنين من محاولات صهر المجتمع الإسرائيلى فى بوتقة واحدة. كما أنّ الأديب تعمّد أنْ يكتب عنوان القصة باللغة العربية (ص72).
وفى مسابقة جائزة ها آرتس للقصة القصيرة ذكر المؤلف أنّ العدد الكبير من القصص الفائزة بالجائزة تطعن بشكل صريح فى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. وتصف الجيش الإسرائيلى باللا أخلاقية على عكس الخطاب السائد فى وسائل النشر الإسرائيلية. لذلك كان الهجوم الحاد على مؤسسات اليسار الإسرائيلى . ففى قصة (فى التناسخ السابق كنتُ قطة) للأديبة (عنيبال همثيرى) فتاة إسرائيلية مرّ على خدمتها العسكرية فى رام الله أثناء الانتفاضة الأولى سبع سنوات ، وتتذكر حادثة تعذيب مراهق فلسطينى ومحاولتها البائسة لمساعدته هى وزميل لها فى محيط (كما صورته الأديبة) يزخر بالجنود الساديين الذين حاصروا امرأة فلسطينية داخل بيتها وسدوا المنافذ ووقفوا يضحكون وهم يُـتابعون عملية دفنها حية. وتروى قصة (بقعة) للأديبة (إفرات نافيه) عن كتيبة إسرائيلية وقعتْ فى كمين نصبته المقاومة الفلسطينية. نجح الإسرائيليون فى تصفية الفلسطينيين . وجاء على لسان الراوى (المجند آيال) مشهد المقاتل الفلسطينى الجريح وتكثيف السرد فى بقعة دماء تـُعبّر عن حال الفلسطينى الذى يُـقاوم رغم جروحه. وفى قصة (حكاية حاجز) للأديبة (راحيل عزران) تتعرّض لموقف عدد من الجنود المُـكلفين بإقامة حاجز أمنى فى بيت لحم ليلة عيد الميلاد . وفيها يبرز تعاطف الجندى الروسى مع معاناة الفلسطينيين ورغبته فى إقرار السلام وإنتهاء الحرب ، بينما جندى آخر يحلم بأرض إسرائيل الكاملة. وانعكاس تلك المواقف المتناقضة على الفلسطينيين العالقين على الحاجز. وفى قصة (خراء وأقحوان) للأديب (بمبى) تجسيد حادث تصفية شهيد فلسطينى معاق يسير بمساعدة كرسى متحرك بدعوى أنه يُـشكل خطرًا أمنيًا. حاول الجيش الإسرائيلى إخفاء الجريمة بسحق الكرسى المتحرك أسفل جنازير الدبابات ، وتكون المفاجأة (والمتعة الفنية بالغة الدلالة) أنّ الكرسى يُقاوم تحطيمه ويظل شاخصًا كدليل على الجريمة (من 81- 83، 393)
ويتوازى نقد المؤسسة العسكرية مع نقد المؤسسة الدينية ، ففى قصة (من يوميات الحريدى) للأديب (شى أسبريل) تتناول شخصية مراهق وانقسامه الداخلى بين تكوينه وتعليمه الدينى وتردده المستمر على المعبد ونشأته فى بيت والده الحاخام ، وبين رغباته الجنسية.
ركـّـز د. محمد عبود فى كتابه على أهم محوريْن نالا إهتمام الأدباء الإسرائيليين العلمانيين واليساريين : نقد المؤسسة الدينية والتعصب الدينى وفضح الكهنوت الدينى اليهودى المُـتمثل فى الحاخامات المُعادين للشعب الفلسطينى ، رغم سلوكهم اللا أخلاقى وإنغماسهم فى الجنس غير المشروع . والمحور الثانى فضح المؤسسة العسكرية وبطشها بالشعب الفلسطينى ، وبذلك يكون هؤلاء الأدباء ساهموا فى فضح الصهونية بشقيها : الدينى والسياسى ، فهل هؤلاء الأدباء (خرافة) ولا يجب التعامل معهم ؟ أم أنّ الخرافة هى عودة القتيل للحياة ، فى حرب عبثية استمرتْ 40سنة ، راح فيها الكثير من الضحايا من القبيلتيْن (والقاتل والقتيل أولاد عم) كدليل على أنّ العقلية العربية لا تضع البشر فى اعتبارها كما قالت اليمامة : ((أنا لا أصالح حتى ولو لم يبق أحد.. ولا أصالح حتى يقوم والدى ونراه راكبًا)) وتلك الخرافة تصلح كمادة درامية تحتاج لموهبة مُبدع على مستوى كافكا أو مبدعى مسرح اللا معقول.
يرى بعض الباحثين المصريين أنه لا توجد أية فروق بين يمين ويسار إسرائيلى، ولا بين حاخامات متعصبين وضد الشعب الفلسطينى ومع التوسع ورفض إقامة الدولة الفلسطينية، وبين العلمانيين الذين هم النقيض تمامًا للأصوليين اليهود ، لأنّ هؤلاء العلمانيين ضد المؤسسة العسكرية الإسرائيلية التى تستهدف المزيد من التوسع ، ويتوازى هذا الموقف المُعارض لسياسة إسرائيل الرسمية مع موقفهم المؤيد لإقامة الدولة الفلسطينية. ووصل الشطط ببعض الباحثين المصريين لدرجة اعتبار تيار العلمانيين الإسرائيليين واليسار الإسرائيلى مجرد خرافة.
وأعتقفد أنّ هؤلاء الباحثين مرضى بوهم أشبه بوهم اليمامة التى كانت تـُريد (العدل الطوباوى الغير قابل للتحقق) أى أنها كانت تطلب المستحيل لأنها كانت تـُريد عودة الميت للحياة فالعدل من وجهة نظرها (كليب حيًا.. لا مزيد) كرّرتْ اليمامة ما سبق أنْ أوصى به أبوها لعمها حين طلب منه أنْ لا يُصالح إلى أنْ يعود كليب حيًا. وتلك اليوتوبيا المريضة كانت الفخ الذى وقع فيه الشاعر الكبير أمل دنقل فى قصيدته الشهيرة (فى أقوال البسوس الجديدة) من ديدوان (البكاء بين يدىْ زرقاء اليمامة) ويتغنى الناصريون والعروبيون بالمقطع الذى قال فيه ((لا تـُصالح/ ولو منحوك الذهب/ أترى حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتيْن مكانهما / هل ترى؟ هى أشياء لا تـُشترى)) والمعنى النقيض لشعار (لا تصالح) أنه لابد من الحرب وهو ما نصّ عليه أمل دنقل ((إنها الحرب/ قد تـُثقل القلب)) ولأنه كان واعيًا بمخاطر شعارات العروبة الزائفة كتب فى البيت التالى مباشرة ((لكن خلفك عار العرب)) فهو هنا دلّ على الوعى العميق بمأساة الشعب الفلسطينى ، عندما نصّ على أنّ (العرب عار) وفى نفس الوقت مسئولون عن تحرير فلسطين ثم يأتى الشعب الفلسطينى فى المرتبة الثانية ، كما روّج الإعلام العروبى/ الناصرى ، ولكن حماسته العروبية/ الناصرية طمستْ أمانته فوقع فى التناقض عندما أضاف ((لا تـُصالح/ ولا تتوخ الهرب/ لا تـُصالح على الدم.. حتى بدم/ لا تـُصالح ولو قيل رأس برأس/ أكل الرؤوس سواء؟.. إلى أنْ يقول فى المقطع الرابع ((لا تـُصالح/ ولو توّجوك بتاج الإمارة/ وكيف تصير المليك/ على أوجه البهجة المستعارة/ كيف تنظر فى يد من صافحوك/ فلا تـُبصر الدم/ فى كل كف/ إنْ سهمًا أتانى من الخلف/ سوف يجيئك من ألف خلف/ إنّ عرشك سيف/ وسيفك زيف)) هنا يعترف الشاعر بوجود الخونة من العرب ((إنْ سهمًا أتاتى من الخلف/ سوف يجيئك من ألف خلف)).
وفى نص تاريخى عن أقوال اليمامة ((فلما جاءتْ الوفود ساعية إلى الصلح قال لهم الأمير سالم : أصالح إذا صالحتْ اليمامة ، فقصدتْ إلى اليمامة أمها الجليلة ومن معها من نساء سادات القبيلة. فدخلنَ إليها وقـبّـلتْ الجليلة بنتها وقالت : أما يكفى ؟ فقد هلكتْ رجالنا وساءتْ أحوالنا وماتتْ فرساننا وأبطالنا. فأجابتها اليمامة : أنا لا أصالح ولو لم يبق أحد يقدر أنْ يُكافح)) وقالت أيضًا ((أنا لا أصالح حتى يقوم والدى ونراه راكبًا لقاكم)) (هكذا وردتْ الكلمة الأخيرة فى النص) أليس هذا النص فيه الدليل الأكيد على خرافة طلب المستحيل (عودة الميت للحياة) وإذا كان العرب (عار) على الشعب الفلسطينى كما كتب الشاعر، ألا يعنى أنهم مثل القتيل كليب؟ وهكذا يتضح أنه بينما الخرافة الحقيقية هى طلب عودة الميت للحياة ، يرى العروبيون/ الناصريون أنّ التيار العلمانى فى إسرائيل خرافة. رغم أنّ هذا التيار مناصر للشعب الفسطينى.
صحيح أنّ اليسار والعلمانيين الإسرائيليين مع الدولة الإسرائيلية ، وضد مزاعم القضاء عليها ، وصحيح أنّ إسرائيل اغتصبتْ الوطن الفلسطينى ، وصحيح أنّ العقل الحر مع عودة الحق لأصحابه ، ولكن الصحيح أيضًا أنّ إسرائيل أصبحتْ دولة بحكم الواقع الذى مرّ عليه 67 عامًا منذ قرار التقسيم عام47، فهل لدى (العرب) بعد هذا التاريخ القدرة والإرادة ل (طرد) إسرائيل ؟ وعدوة اليهود إلى بلادهم كما يُردّد الناصريون/ العروبيون ناهيك عن الإسلاميين ؟ وإذا كانت كل مُـعطيات الواقع (العربى) تؤكد على أنه لا وجود للقوة (العربية) ولا للإرادة (العربية) فلا يكون أمام العقل الحر إلاّ الدفاع عن الدولة العلمانية التى تضم الإسرائيليين والفلسطينيين على قاعدة (المواطنة) وليس على قاعدة (الدين) أو (وهو البديل الأكثر رواجًا) إقامة دولتيْن : فلسطينية لها كل مقومات الدولة المستقلة بجانب دولة إسرائيل . وفى هذا الشأن كتب الأديب الإسرائيلى عاموس عوز ((هذه الأرض وطن لشعبيْن : من الواضح أنه ليس لديهما وطن آخر ولا خيار آخر)) وفى حديث مع الناقد الأمريكى ديفيد سبارتر قال عاموس ((على السطح فى إسرائيل هناك ثقة فى النفس هائلة. رصيد ضخم من اللامبالاة ومن إجابات سخيفة تدور فى أى ذهن وتتمثل فى : لا تنزعج نحن نستطيع أنْ نحل كل شىء ونتغلب على كل صعوبة. ولكن هذه الثقة تطفح على السطح فقط ، بينما فى العمق وفى ذات طيات الضمير والعقلية الإسرائيلية ، هناك شعور قديم بالفزع اليهودى التقليدى ، فزع بالشعور بالذنب تجاه العرب ، ويؤدى فى حالة بطلة الرواية (كان يتكلم عن روايته حِنه وميخائيل) إلى نزوات انتقامية)) وفى حديث آخر سأله أحد النقاد : هل لازلتَ تؤمن بدولة علمانية ديمقراطية تستطيع البقاء فى إسرائيل ؟ فقال ((التطرف الدينى والتعصب حققا ارتفاعًا هائلا ، ليس فقط فى القدس ولكن فى أماكن كثيرة أخرى من العالم تحت سيطرة الإسلام والمسيحية واليهودية. ويؤدى ذلك إلى سيطرة الأصوليين (اليهود) على القدس . إننى لن أعتبر موجة التطرف الدينى فى إسرائيل ظاهرة عابرة. إنها ثابتة وقائمة)) وعاموس مؤلف الرواية التى انتقد فيها التطرف الدينى اليهودى وانتقد المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، شارك فى (حركة السلام الآن) وأحد المناصرين لإقامة الدولة الإسرائيلية. وخلال الإعتداء على لبنان عام 82 قاد مظاهرة ضد مناحم بيجين مذكرًا إياه أنّ ((هتلر قد مات)) ونشر قصة قصيرة فى مجلة اليوم السابع الفلسطينية تدور حول أم تشعر أنّ إحتلال القدس عام 67 لا يُساوى إصبعًا واحدًا من أصابع ابنها الذى فقدته فى تلك الحرب (من مقدمة وتعليقات مترجم الرواية- رفعت فوده- الدار العربية النشر- عام94).
وبينما الثقافة المصرية السائدة مع خرافة لا تـُصالح (بدون قوة وبدون إرادة) وأنّ العلمانيين واليسار الإسرائيلى (خرافة) فإنّ أصحاب العقول الحرة من المصريين رفضوا المشى وراء العروبيين/ الناصريين وابتعدوا عن طابور القطيع وحلــّـقوا فى فضاء الإنسانية ليُغرّدوا بأصواتهم الخاصة ، من بينهم د. محمد عبود فى كتابه (التمرد على الصهيونية فى الأدب الإسرائيلى المعاصر) الصادر عن هيئة الكتاب المصرية- عام 2013. وكتب عن الأديب عاموس عوز أنه ساهم فى تحرير عقول الجيل الجديد ((وكان يرفض توظيف الأدب لخدمة أغراض أيديولوجية. ويرى أنّ كل ما ينطق به الشاعر أو الأديب هو انعكاس لذاته فقط وليس لشىء آخر)) (ص27) وأشار إلى الكاتب (شلومو جروس) الذى طالب بإقامة دولة فلسطينية مستقلة للشعب العربى الفلسطينى وفق تعبيره وبنص كلماته. كما نشر الأديب (عاموس أيالون) سلسلة مقالات بعنوان (الإسرائيليون كمحتلين) فى نوفمبر67ردًا على حركة أرض إسرائيل الكاملة. والمجلات الثقافية الإسرائيلية ذات الميول اليسارية تـُشجع أى كتابة ضد المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ((فنشر الملحق الثقافى لإحدى المجلات مقالا حادًا وعنيفـًا للأديب (يتسحاق أورباز) عن ثمن إحتلال أراضى الآخرين . وهاجم فكرة تأسيس إسرائيل الكاملة)) كما خصّص الملحق الثقافى ذاته عددًا فى 29سبتمبر67 لردود أفعال الأدباء على إحتلال المناطق الفلسطينية ردًا على بعض الشعراء الذين كانوا يُمجدون إحتلال القدس عقب هزيمة67. ومن أشهر كــُـتاب الملحق الثقافى اليسارى (جدعون ليفى) الذى كتب كثيرًا عن معاناة الفلسطينيين الخاضعين للإحتلال الإسرائيلى . ونفس الشىء فعلته الكاتبة (عميرا هاس) التى لم تكتف بالكتابة عن معانة الفلسطينيين وإنما انتقلتْ للإقامة فى غزة ورام الله لتنقل وجهات نظر الفلسطينيين . وكذلك الكاتب (بينى تسيفر) الذى كتب عدة مقالات امتدح فيها الثقافة المصرية ، مما أثار عليه غضب اليمين الإسرائيلى . كما أتاح المُلحق الثقافى المجال أمام النقاد وأصحاب التوجهات الحداثية فى الأدب والنقد . وخاض هؤلاء معارك كثيرة بسبب النقد العنيف الموجه للصهونية على صفحات الملحق (من ص 43- 48).
وتحت عنوان (نقد طبيعة الدولة الصهيونية) عرض المؤلف بعض القصص التى تعرّضتْ لهذا الموضوع مثل قصة (القطار) للأديب (عميكام نحمانى) الذى عالج حالة الاغتراب الثقافى والرفض لمشروع الدولة الإسرائيلية من خلال شخصية أستاذ جامعى يمقتْ الثقافة الإسرائيلية ويرفض الاندماج (الثقافى) فيعيش فى إسرائيل بجسده فقط ، بينما تحل روحه فى إيطاليا (موطنه الأصلى) لأنها أكثر تحضرًا ورقيًا. وفى قصة (الوجبة الأخيرة) للأديب (جيورا بيلو) يود العودة إلى بولندا ليرى حبيبته التى رفضتْ الهجرة معه إلى فلسطين ((مُـشككة فى الدعاية الصهيونية حول أرض اللبن والعسل)) وتحاكى قصة (الأوديسة) للأديب (بار حيون) ملحمة الأوديسة اليونانية. وترمى القصة إلى أنّ الدولة الصهيونية ستصير مثل طريق (أوديسيوس) فى ملحمة الأوديسه مفروشة بالأهوال والوحوش المفترسة)) وكان تعقيب المؤلف ((جاء نقد وتمرد هذه الموجة من الأدباء الفائزين بجائزة ها آرتس مشبعًا بروح مغايرة عن تلك الروح التى تلبّستْ الأجيال السابقة.. واتسم نقد جيل الألفية الثالثة بالحدة فى التعبير، والشدة فى تقييم التجربة الإسرائيلية ، ورفع لواء الاحتجاج على تجاوز الشعارات الصهيونية)) (85، 96).
وصل جرأة البعض لدرجة أنْ أرسلت الكاتبة (نوعا يدلين) قصة بعنوان (أسئلة صعبة لله) تحكى فيها أنّ (الله) قرّر المشاركة فى مسابقة ها آرتس للقصة القصيرة. ورغم فكرة القصة الجريئة فإنها لم توفق فى الحصول على الجائزة والسبب أنها تدخل ((ضمن فن المحاكاة الساخرة أكثر من فن القصة)) ثم نشرتْ الكاتبة كتابًا بالعنوان نفسه (أسئلة صعبة لله) فصار من أكثر الكتب مبيعًا فى إسرائيل عام 2005 (52).
وفى فصل بعنوان (التمرد على سلطة النص والمؤسسة الدينية) كتب المؤلف ((يُشكل التمرد على الدين ملمحًا مهمًا من ملامح الاتجاهات الفكرية فى القصص القصيرة الفائزة بجائزة ها آرتس ، ويتردد صدى هذا التمرد والرفض على سيطرة المؤسسة الدينية لتأويل النص وسحب هذه التأويلات على الحياة المعيشية فى إسرائيل)) ففى قصة (إسماعيل) للأديب يوناتان يوفال الذى فاز بالجائزة عام 2000 تناول حكاية إسماعيل التوراتية واتخذ من هذه الشخصية محورًا لقصته. وإذا كان إسماعيل فى التوراة إنسانـًا وحشيًا وعدوانيًا من سكان الصحراء ، فإنّ إسماعيل فى المُـتخيّل السردى ، تمرّد على الظلم الذى وقع عليه ، نتيجة تفضيل أبيه لأخيه إسحاق وكراهية زوجة أبيه ساره له ولأمه ونفيهما إلى الصحراء . وتبدأ القصة بعودة إسماعيل للمشاركة فى تشييع جنازة أبيه. وركــّـز الراوى على الحالة النفسية لإسماعيل وإيمانه بعدالة قضيته. ورغبته فى الانتقام وموقفه السلبى من زوجة أبيه (ساره) وموقفه من أخيه إسحاق الذى يتراوح بين العداوة وليدة الصراع والاشفاق عليه بوصفه أخيه الأصغر ومحنته مع أبيه الذى كاد أنْ يذبحه لولا (معجزة كبش الفداء) وتلك القصة كانت صادمة للرأى العام الإسرائيلى (خاصة بين المتدينين) المولعين بشخصيتىْ ساره وإسحاق والنفور من إسماعيل وهاجر خاصة أنّ إسماعيل يوصف على أنه (جد العرب) الأعداء المُعاصرين للمشروع الإسرائيلى. وفى قصة (أوراق الخس) للأديبة (حِنا تويج) زوجة رومانسية حالمة وزوج متطرف دينيًا ، وتنتهى القصة بتمرد الزوجة على زوجها ، فى اسقاط على جبروت المؤسسة الدينية والقمع باسم الدين، خاصة أنه كان يُضاجعها بشكل لا إنسانى (63، 64، 274).
ومن نماذج التمرد على السلطة العسكرية قصة (أنا من اليهود) للأديب (ألموج بيهار) تتناول قصة شاب عراقى يتجول فى شوارع القدس ، وفجأة ينطق لسانه بلغة جدوده فى بغداد ، فينقض عليه رجال الشرطة ويشتبهون فى كونه (عربيًا إرهابيًا) بينما يصرخ هو فى القسم ((أنا من اليهود)) ووفقــًا لقراءة المؤلف للقصة كتب ((تتدافع الأحداث المُـشبعة بالواقعية السحرية ، فكما تمرّد جهاز النطق ، تتمرّد شوارع القدس ، وتعود لهيئتها العربية مُـنتصرة على ملامح التهود التى حولتها إلى (أورشليم) ثم تتطور الأحداث فيشعر البطل بالاغتراب ، فهو ليس يهوديًا وفق المقاييس الاشكنازية المقبولة فى إسرائيل ولا بقى عربيًا. وتتطور الأحداث أكثر عندما يُصاب المجتمع الإسرائيلى كله بعدوى تغيير النطق ، فتعود كل مجموعة ذات خصوصية ثقافية إلى نطقها القديم : التركى والإسبانى والألمانى الخ . تسعى السلطات لمحاربة (هذا التفكك) و(التمرد) الذى يقضى على عشرات السنين من محاولات صهر المجتمع الإسرائيلى فى بوتقة واحدة. كما أنّ الأديب تعمّد أنْ يكتب عنوان القصة باللغة العربية (ص72).
وفى مسابقة جائزة ها آرتس للقصة القصيرة ذكر المؤلف أنّ العدد الكبير من القصص الفائزة بالجائزة تطعن بشكل صريح فى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. وتصف الجيش الإسرائيلى باللا أخلاقية على عكس الخطاب السائد فى وسائل النشر الإسرائيلية. لذلك كان الهجوم الحاد على مؤسسات اليسار الإسرائيلى . ففى قصة (فى التناسخ السابق كنتُ قطة) للأديبة (عنيبال همثيرى) فتاة إسرائيلية مرّ على خدمتها العسكرية فى رام الله أثناء الانتفاضة الأولى سبع سنوات ، وتتذكر حادثة تعذيب مراهق فلسطينى ومحاولتها البائسة لمساعدته هى وزميل لها فى محيط (كما صورته الأديبة) يزخر بالجنود الساديين الذين حاصروا امرأة فلسطينية داخل بيتها وسدوا المنافذ ووقفوا يضحكون وهم يُـتابعون عملية دفنها حية. وتروى قصة (بقعة) للأديبة (إفرات نافيه) عن كتيبة إسرائيلية وقعتْ فى كمين نصبته المقاومة الفلسطينية. نجح الإسرائيليون فى تصفية الفلسطينيين . وجاء على لسان الراوى (المجند آيال) مشهد المقاتل الفلسطينى الجريح وتكثيف السرد فى بقعة دماء تـُعبّر عن حال الفلسطينى الذى يُـقاوم رغم جروحه. وفى قصة (حكاية حاجز) للأديبة (راحيل عزران) تتعرّض لموقف عدد من الجنود المُـكلفين بإقامة حاجز أمنى فى بيت لحم ليلة عيد الميلاد . وفيها يبرز تعاطف الجندى الروسى مع معاناة الفلسطينيين ورغبته فى إقرار السلام وإنتهاء الحرب ، بينما جندى آخر يحلم بأرض إسرائيل الكاملة. وانعكاس تلك المواقف المتناقضة على الفلسطينيين العالقين على الحاجز. وفى قصة (خراء وأقحوان) للأديب (بمبى) تجسيد حادث تصفية شهيد فلسطينى معاق يسير بمساعدة كرسى متحرك بدعوى أنه يُـشكل خطرًا أمنيًا. حاول الجيش الإسرائيلى إخفاء الجريمة بسحق الكرسى المتحرك أسفل جنازير الدبابات ، وتكون المفاجأة (والمتعة الفنية بالغة الدلالة) أنّ الكرسى يُقاوم تحطيمه ويظل شاخصًا كدليل على الجريمة (من 81- 83، 393)
ويتوازى نقد المؤسسة العسكرية مع نقد المؤسسة الدينية ، ففى قصة (من يوميات الحريدى) للأديب (شى أسبريل) تتناول شخصية مراهق وانقسامه الداخلى بين تكوينه وتعليمه الدينى وتردده المستمر على المعبد ونشأته فى بيت والده الحاخام ، وبين رغباته الجنسية.
ركـّـز د. محمد عبود فى كتابه على أهم محوريْن نالا إهتمام الأدباء الإسرائيليين العلمانيين واليساريين : نقد المؤسسة الدينية والتعصب الدينى وفضح الكهنوت الدينى اليهودى المُـتمثل فى الحاخامات المُعادين للشعب الفلسطينى ، رغم سلوكهم اللا أخلاقى وإنغماسهم فى الجنس غير المشروع . والمحور الثانى فضح المؤسسة العسكرية وبطشها بالشعب الفلسطينى ، وبذلك يكون هؤلاء الأدباء ساهموا فى فضح الصهونية بشقيها : الدينى والسياسى ، فهل هؤلاء الأدباء (خرافة) ولا يجب التعامل معهم ؟ أم أنّ الخرافة هى عودة القتيل للحياة ، فى حرب عبثية استمرتْ 40سنة ، راح فيها الكثير من الضحايا من القبيلتيْن (والقاتل والقتيل أولاد عم) كدليل على أنّ العقلية العربية لا تضع البشر فى اعتبارها كما قالت اليمامة : ((أنا لا أصالح حتى ولو لم يبق أحد.. ولا أصالح حتى يقوم والدى ونراه راكبًا)) وتلك الخرافة تصلح كمادة درامية تحتاج لموهبة مُبدع على مستوى كافكا أو مبدعى مسرح اللا معقول.
Blogger Comment
Facebook Comment